السبت، يناير 23، 2010

روزالين

بالامس رأيتها...صباحا" عكس المتوقع والمعتاد
بالامس رأيتها...وحتي العاشرة من صباح الامس كان كأي صباحات هذا الصيف العادية المتكررة بحذافيرها...الي ان ظهرت روزا...وما أدراك ما روزا...لتترك خلفها انهارا تندفع من تيارات المشاعر المتلاطمة...وبركانا يغلي بحمم من الذكريات الدفينة

**********

"ولعة يا ابني"

اطلقتها بنفاذ صبر لاطالب بحقي الدستوري المكفول في التغيير (تغيير الولعة طبعا لان اكتر من كده يبقي دلع مريء)...التقطت لاي الشيشة وواصلت تأمل ميدان التحرير المنهك والكائن من أمامي في تلك الساعة المبكرة من اليوم...كوكتيل بشري من مختلف فئات الشعب المصري وشعوب الارض الاخري المحبة (والغير محبة) للسلام مندفعة من خرطوم موقف عبد المنعم رياض...عبقري موقع قهوة وادي النيل في وسط الميدان...تبتسم لي طفلة صغيرة تمسك بيد أمها فأرد بابتسامة بريئة مماثلة وأواصل مسح المنطقة بحياد ضوء فنار او كاميرا مراقبة أمينة ثم فجاة التفت لها مرة أخري...لسبب ما لا أعرفه أشعر اني رأيتها من قبل...أسمع كثيرا عن ظاهرة ال (deja vu ) ... لكني لا أجد تفسيرا لذلك الاحساس المتغلغل بأني أعرف تلك الطفلة منذ أمد بعيد...لكن نظرة أخري شاملة جعلتني أدرك كل شيء...واستوعب المفاجأة تدريجيا...

*******************

روزالين...ترانيم الملائكة الاوبرالية الخافتة التي تعزفها السماء فتشعر انها هادئة وآتية من كل مكان حولك وسط نشاز موسيقي سائد...روزالين...الكاهن والحارس الاقدم لابواب معابدك الروحانية...حذاري ان تفلت يداك وانت تنقش اسمها بين السطرين الممتدين علي جدرانك الداخلية...روزالين...ومن ينساكي يا روزا الحبيبة؟؟!!

********************

لثوان خيل لي ان جميع البشر والمركبات والطيور في الميدان قد توقفت عن الحركة...تماما كفيلم فيديو ضغطت فيه علي زر (pause)...فقط هي وابنتها تتحركان وسط سكون كوني مطلق...لثوان عجزت اذناي عن التقاط اي صوت سوي ضوضاء أطفال في ساحة مدرسة لا تميز منه كلمة واحدة...ورنين جرس متهالك ينذر بانتهاء فترة الفسحة...

********************

(روزالين)...أول من علمك معني الفقد والحنين...خمس سنوات امتدت منذ سنتك الاولي في الحضانة كانت كفيلة بأن تنطبع بصمتها علي روحك للابد...في البدء كانت كائن مثلك تلهو وتلعب معه في ملاعب ومراجيح المدرسة ولا تعبأ بل لعلك لا تدرك أصلا فارق الجنس والديانة معه...تقتسمان الاكسليفون العتيق في حصة الموسيقي...(ميس فالا) وكشكول الانجليزي ابو سطرين الذي تعلمت كتابة اسم روزا بين سطوره كأول ما نقشت يداك...أكياس اللوليتا اللاتي اقتسمتماها سويا من الكانتين...الصباحات الشتوية الممطرة التي تنعم فيها بالغاء طقوس طابور الصباح الغير محبب لقلبك وتستمتع ببخار الماء المتصاعد من فمك كلما نفخت وتفاجيء بفصل خاوي الا من القليل ومنهم-دائما- هي...لانها ببساطة ابنة الرجل الاسطوري (عم ماهر) مشرف الدور الصارم...رائحة سندوتشات البسطرمة التي اعتاد انفك عليها كلما جلست بجانبها في الحضانة...(روزالين) الصغيرة حجما والدقيقة الملامح بالمريلة الكاروهات القصيرة والكولون الابيض والحذاء الاسود والشعر الاسود القصير والتوكة الحمراء والعيون الزرقاء...صورة ناعمة صافية كألافلام الايطالية القديمة كعادة كل مشاهد الطفولة المبكرة...
*****************

الشوارع حواديت
حوداية الحب فيها و حوداية عفاريت
وإسمعى يا حلوة لما أضحكك

الشارع دة كنا ساكنين فيه زمان
كل يوم يضيق زيادة عما كان
أصبح الآن بعد ما كبرنا عليه
زى بطن الأم مالناش فيه مكان*


*******************

تمر الايام وتتحول روزا من كائن مماثل لطفلة صغيرة تشعر تجاهها بمشاعر احترت كثيرا في ان تعثر لها علي عنوان او مسمي...كان ذلك في الصف الثالث الابتدائي...بدأ كلاكما يشعر بالتباسات واحراج اختلاف الديانة والنوع مع التقدم النسبي في السن فبدأت علاقتكما تخفت تدريجيا مع الوقت...منعك خجلك وقتها وربما للابد من ان تخبرها انك تحبها...حب الطفولة الساذج القائم علي الخيال والاحلام اكثر منه في الواقع والاحداث...انتقلت هي لفصل آخر ولم تعد تلهو في ملعب المدرسة...تكتفي بالجلوس مع صديقاتها وأكل الشيبسي وقراءة (تان تان) في الفصل...وانضممت انت لفريق الكشافة المسئول ضمنيا عن خلو الفصول من التلامذة وقت الفسحة...ولانها ابنة مشرف الدور...ولانك تحبها...كنت دائما تسمح لها بالبقاء وتكتفي بابتسامة تحاول ان تودعها كل مشاعرك الدفينة...الي ان جاء العام الدراسي التالي لتفاجأ باختفائها هي ووالدها تماما من المدرسة...لم يدم حزنك طويلا كعادتنا في تلك الفترة تأتي احزاننا عابرة تحمل قدرا كبيرا من السذاجة والسطحية
*******************

الشارع دة رحنا فيه المدرسة
اللى باقى منه باقى
و اللى مش باقى إتنسى
الشارع دة أوله بساتين و آخره حيطة سد
ليا فيه قصة غرام ماحكيتش عنها لأى حد
من طرف واحد
و كنت سعيد أوى
بس حراس الشوارع حطوا للحدوتة حد

**************

لا اراديا وجدت نفسي اخبيء لاي الشيشة جانبا واتأملهما سويا...الطفلة نسخة من أمها في الطفولة...روزا نفسها لم تتغير كثيرا...فقط اصبح حجمها اكبر قليلا وان ظلت صغيرة الحجم نسبيا...وشعرها اصبح طويلا تجمعه في (ديل حصان)...صورة لهما معا كهذة تستطيع مستريحا ان تضعها في القاموس لتوضح معني(الزمن) او (ما تفعله الايام والشهور بنا) او حتي (التطور الطبيعي للحاجة الحلوة)...نسختان متطابقتان عرف الزمن طريقه الي واحدة ليشيخ كثيرا من روحها وان عجز ان يغير من ملامحها الكثير حتي الان...تحملت مسئولية الامومة والزواج والعمل ولم تعد تلك الطفلة ذات النظرة البريئة المندهشة...علي عكسي تماما عرف الزمن طريقه جيدا في ملامحي وقسمات وجهي ولكني ما زلت ذلك الطفل بتلقائيته ودهشته وروحه البسيطة...حوالي عشر سنوات بعد التخرج ولم استطع بعد ان اثبت وجودي او اختلافي في هذة الحياة...ليس هباء كاملا بالطبع لكن محاولات قليلة للعمل والارتباط اغلبها بل كلها آل الي الفشل الذريع محاولا ان اقنع نفسي انه لا زلت املك الكثير من الوقت للتصحيح...لا أدري لكني شعرت بالشيخوخة والحسرة حين نظرت لابنتها ثم اليها...اختلط مع شعور آخر متنامي بافتقاد الكثيرين وبالحنين لحياة كاملة ولت بخيرها وشرها وولي من رافقوني الدرب فيها...فكرت ان اذهب اليها لاذكرها بنفسي...هل ستتذكرني بعد كل هذة السنوات؟؟؟...حتي وان تذكرتني ستجيبها قعدة القهوة في ذلك الصباح والشيشة والسلسلة التي ارتديها عن كثير من الاسئلة من نوعية: (ماذا تفعل في حياتك الآن؟) لينكتم الكثير من الكلام المحبوس بداخلنا حينها...اقرر ان ادعها تمر بسلام واتظاهر بالانشغال بقراءة شيء ما في الموبايل كي لا تراني...

********************

و الشارع دة شفتك إنتى ماشية فيه
لابسة جوب و بلوزة وردى
و عاملة ديل حصان وجيه
إتجاهك إتجاهى مشينا ليه
و الشارع دة زحام و تيه بس لازم نستميت

*****************


فجأة المحها بطرف عيني قادمة تجاهي فينتفض قلبي...أحاول تخيل اسئلتها الاولي وارتب ردود سريعة مقنعة...اشعر بالسعادة ويرقص قلبي طربا لانها لا تزال تتذكرني...جميل ان تعلم انك تركت اثرا خالدا في روح من وضعوا علاماتهم الابدية في قلبك...اتهيأ للوقوف واجهز ابتسامة مندهشة فافاجأ بها تتجاوزني و تذهب لبائعة الجرائد المجاورة علي الرصيف...اشعر بخيبة أمل هائلة...احاول تجاهل وجودها بجانبي لكني اشعر انها فرصة قد لا تتكرر مرة اخري...قد تعطيك الحياة فرصة أخري لاصلاح ما اخطئته مسبقا لكن ان كررت سلبيتك فلن تكرر الفرصة...مع تكرار ضياع الفرص تتعلم الجرأة والاندفاع لانك تعلم ان الفرص القادمة قليلة ونادرة...الاذكياء دائما هم الاكثر ترددا فلماذا لا انعم ولو قليلا ببعض الغباء والتهور المفيد...
************************

سريعا تلتقط الصحيفة وكيس مناديل ورقية وتضعهم في حقيبتها الصغيرة...
"مفيش فكة"...قالتها البائعة وهي تعيد العشرة جنيهات اليها...احاول ان اجمع الفكة في جيبي كمحاولة للمساعدة ونوع من فواتح الحوار...اجمع المبلغ في سرعة واناوله للبائعة الجالسة علي الارض لافاجأ بيد أخري تسبقني...
"لامؤاخدة يا استاذ...معاكي جنيه ونص اهم يا حاجة"...اتأمل العجوز الواقف بجانبي في بدلته السفاري الصيفية وصلعته اللامعة في ضوء الشمس واكتم صرختي...عم ماااااهر!!!...ما زال يحتفظ بالكثير من ملامحه وان فقد كمية لا بأس بها من شعره ووقاره...تنظر البائعة للصليب علي باطن معصمه وتضع المال في حقيبتها في ضيق واضح...كم هو غريب ان تري كائن اسطوري بالنسبة لك يتحول الي مواطن عادي يتعامل مع الناس في الشارع ويتشاجر معهم ويبتلع اهاناتهم احيانا...كم هو مثير للدهشة ان تراه يلقبك ب (يا استاذ) ليترك داخلك مزيجا من السخرية والدهشة والاحساس بالزمن...تؤثر الصمت وانت تراه يأخذ بيد الطفلة ويربت علي كتف امها ويمشيان سويا وسط الجموع السائرة في ميدان التحرير...ويختفيان في الافق

***********************

و إضحكى يا حلوة لما أسمعك

_____________________________
* من اغنية الشوارع حواديت كلمات الرائع صلاح جاهين غناء فرقة المصريين

ليست هناك تعليقات: